فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ورابعها: أن تجويزه يفضي إلى القدح في خبر التواتر فلعل الشخص الذي حارب يوم بدر لم يكن محمدًا بل كان شخصًا آخر تشبه به وكذا القول في الكل.
والجواب عن الأول أن ذلك التجويز لازم على الكل لأن من اعترف بافتقار العالم إلى الصانع المختار فقد قطع بكونه تعالى قادرًا على أن يخلق شخصًا آخر مثل زيد في خلقته وتخطيطه وإذا جوزنا ذلك فقد لزم الشك في أن زيدًا المشاهد الآن هو الذي شاهدناه بالأمس أم لا، ومن أنكر الصانع المختار وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب وتشكلات الفلك لزمه تجويز أن يحدث اتصال غريب في الأفلاك يقتضي حدوث شخص مثل زيد في كل الأمور وحينئذ يعود التجويز المذكور.
وعن الثاني: أنه لا يمتنع أن يكون جبريل عليه السلام له أجزاء أصلية وأجزاء فاضلة والأجزاء الأصلية قليلة جدًا فحينئذ يكون متمكنًا من التشبه بصورة الإنسان، هذا إذا جعلناه جسمانيًا أما إذا جعلناه روحانيًا فأي استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير.
وعن الثالث: أن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع وهو الجواب عن السؤال الرابع، والله أعلم.
{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)}.
وفيه وجوه: أحدها: أرادت أن كان يرجى منك أن تتقي الله ويحصل ذلك بالاستعاذة به فإني عائذة به منك وهذا في نهاية الحسن لأنها علمت أنه لا تؤثر الاستعاذة إلا في التقي وهو كقوله: {وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] أي أن شرط الإيمان يوجب هذا لا أن الله تعالى يخشى في حال دون حال.
وثانيها: أن معناه ما كنت تقيًا حيث استحللت النظر إلي وخلوت بي.
وثالثها؛ أنه كان في ذلك الزمان إنسان فاجر اسمه تقى يتبع النساء فظنت مريم عليها السلام أن ذلك الشخص المشاهد هو ذلك التقى والأول هو الوجه.
{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
لما علم جبريل خوفها قال: {إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ} ليزول عنها ذلك الخوف ولكن الخوف لا يزول بمجرد هذا القول بل لابد من دلالة تدل على أنه جبريل عليه السلام وما كان من الناس فههنا يحتمل أن يكون قد ظهر معجز عرفت به جبريل عليه السلام ويحتمل أنها من جهة زكريا عليه السلام عرفت صفة الملائكة فلما قال لها: {إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ} أظهر لها من باطن جسده ما عرفت أنه ملك فيكون ذلك هو العلم وسأل القاضي عبد الجبار في تفسيره نفسه فقال: إذا لم تكن نبية عندكم وكان من قولكم أن الله تعالى لم يرسل إلى خلقه إلا رجالًا فكيف يصح ذلك وأجاب أن ذلك إنما وقع في زمان زكريا عليه السلام وكان رسولًا وكل ذلك كان عالمًا به وهذا ضعيف لأن المعجز إذا كان مفعولًا للنبي فأقل ما فيه أن يكون عليه السلام عالمًا به وزكريا ما كان عنده علم بهذه الوقائع فكيف يجوز جعله معجزًا له بل الحق أن ذلك إما أن يكون كرامة لمريم أو إرهاصًا لعيسى عليه السلام.
المسألة الثانية:
قرأ ابن عامر ونافع ليهب بياء مفتوحة بعد اللام أي ليهب الله لك والباقون بهمزة مفتوحة بعدها أما قوله لأهب لك ففي مجازه وجهان.
الأول: أن الهبة لما جرت على يده بأن كان هو الذي نفخ في جيبها بأمر الله تعالى جعل نفسه كأنه هو الذي وهب لها وإضافة الفعل إلى ما هو سبب له مستعمل قال تعالى في الأصنام: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} [إبراهيم: 36].
الثاني: أن جبريل عليه السلام لما بشرها بذلك كانت تلك البشارة الصادقة جارية مجرى الهبة فإن قال قائل ما الدليل على أن جبريل عليه السلام لا يقدر على تركيب الأجزاء وخلق الحياة والعقل والنطق فيها والذي يقال فيه: إن جبريل عليه السلام جسم والجسم لا يقدر على هذه الأشياء أما أنه جسم فلأنه محدث وكل محدث إما متحيز أو قائم بالمتحيز وأما أن الجسم لا يقدر على هذه الأشياء فلأنه لو قدر جسم على ذلك لقدر عليه كل جسم لأن الأجسام متماثلة وهو ضعيف لأن للخصم أن يقول لا نسلم أن كل محدث إما متحيز أو قائم به، بل هاهنا موجودات قائمة بأنفسها لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز ولا يلزم من كونها كذلك كونها أمثالًا لذات الله تعالى لأن الاشتراك في الصفات الثبوتية لا يقتضي التماثل فكيف في الصفات السلبية سلمنا كونه جسمًا فلم قلت الجسم لا يقدر عليه قوله الأجسام متماثلة قلنا نعني به أنها متماثلة في كونها حاصلة في الأحياز ذاهبة في الجهات أو نعني به أنها متماثلة في تمام ماهياتها.
والأول مسلم لكن حصولها في الأحياز صفات لتلك الذوات والاشتراك في الصفات لا يوجب الاشتراك في ماهيات المواصفات سلمنا أن الأجسام متماثلة فلم لا يجوز أن يقال: إن الله تعالى خص بعضها بهذه القدرة دون البعض حتى أنه يصح منها ذلك ولا يصح من البشر ذلك والجواب الحق أن المعتمد في دفع هذا الاحتمال إجماع الأمة فقط، والله أعلم.
المسألة الثالثة:
الزكي يفيد أمورًا ثلاثة: الأول: أنه الطاهر من الذنوب.
والثاني: أنه ينمو على التزكية لأنه يقال فيمن لا ذنب له زكي، وفي الزرع النامي زكي.
والثالث: النزاهة والطهارة فيما يجب أن يكون عليه ليصح أن يبعث نبيًا وقال بعض المتكلمين الأولى أن يحمل على الكل وهو ضعيف لما عرفت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز حمله على المعنيين سواء كان حقيقة فيهما أو في أحدهما مجازًا وفي الآخر حقيقة.
المسألة الرابعة:
سماه زكيًا مع أنه لم يكن له شيء من الدنيا وأنت إذا نظرت في سوقك فمن لم يملك شيئًا فهو شقي عندك.
وإنما الزكي من يملك المال والله يقول كان زكيًا، لأن سيرته الفقر وغناه الحكمة والكتاب وأنت فإنما تسمى بالزكي من كانت سيرته الجهل وطريقته المال.
{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
أنها إنما تعجبت بما بشرها جبريل عليه السلام لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل والعادات عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور وإن جوزوا خلاف ذلك في القدرة فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه تعالى قادر على خلق الولد ابتداء وكيف وقد عرفت أنه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحد ولأنها كانت منفردة بالعبادة ومن يكون كذلك لابد من أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك.
المسألة الثانية:
لقائل أن يقول قولها: {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} يدخل تحته قولها: {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فلماذا أعادتها ومما يؤكد هذا السؤال أن في سورة آل عمران قالت: {رَبّ أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء} [آل عمران: 47] فلم تذكر البغاء والجواب من وجوه: أحدها: أنها جعلت المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] والزنا ليس كذلك إنما يقال فجر بها أو ما أشبه ذلك ولا يليق به رعاية الكنايات.
وثانيها: أن إعادتها لتعظيم حالها كقوله: {حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] وقوله: {وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] فكذا هاهنا إن من لم تعرف من النساء بزوج فأغلظ أحوالها إذا أتت بولد أن تكون زانية فأفرد ذكر البغاء بعد دخوله في الكلام الأول لأنه أعظم ما في بابه.
المسألة الثالثة:
قال صاحب (الكشاف) البغي الفاجرة التي تبغي الرجال وهو فعول عند المبرد بغوي فأدغمت الواو في الياء، وقال ابن جني في كتاب (التمام) هو فعيل ولو كان فعولًا لقيل بغوا كما قيل نهوا عن المنكر.
المسألة الرابعة:
أن جبريل عليه السلام أجابها بقوله: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} وهو كقوله في آل عمران: {كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] لا يمتنع عليه فعل ما يريد خلقه ولا يحتاج في إنشائه إلى الآلات والمواد.
المسألة الخامسة:
الكناية في: {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} وفي قوله: {وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ} تحتمل وجهين: الأول: أن تكون راجعة إلى الخلق أي أن خلقه علي هين ولنجعل خلقه آية للناس إذ ولد من غير ذكر ورحمة منا يرحم عبادنا بإظهار هذه الآيات حتى تكون دلائل صدقه أبهر فيكون قبول قوله أقرب.
الثاني: أن ترجع الكنايات إلى الغلام وذلك لأنها لما تعجبت من كيفية وقوع هذا الأمر على خلاف العادة أعلمت أن الله تعالى جاعل ولدها آية على وقوع ذلك الأمر الغريب، فأما قوله تعالى: {وَرَحْمَةً مّنَّا} فيحتمل أن يكون معطوفًا على {وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ} أي فعلنا ذلك: {وَرَحْمَةً مّنَّا} فعلنا ذلك ويحتمل أن يكون معطوفًا على الآية أي: ولنجعله آية ورحمة فعلنا ذلك.
المسألة السادسة:
قوله: {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} المراد منه أنه معلوم لعلم الله تعالى فيمتنع وقوع خلافه لأنه لو لم يقع لانقلب علم الله جهلًا وهو محال والمفضي إلى المحال محال فخلافه محال فوقوعه واجب وأيضًا فلأن جميع الممكنات منتهية في سلسلة القضاء والقدر إلى واجب الوجود والمنتهي إلى الواجب انتهاء واجبًا يكون واجب الوجود وإذا كان واجب الوجود فلا فائدة في الحزن والأسف وهذا هو سر قوله عليه السلام: «من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب». اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} يعني في القرآن {إِذ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} فيه وجهان:
أحدهما: انفردت، قاله قتادة.
الثاني: اتخذت.
{مَكَانًا شَرْقِيًّا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ناحية المشرق، قاله الأخفش ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة.
الثاني: مشرقة داره التي تظلها الشمس، قاله عطية.
الثالث: مكانًا شاسعًا بعيدًا، قاله قتادة.
قوله تعالى: {فاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: حجابًا من الجدران، قاله السدي.
الثاني: حجابًا من الشمس جعله الله ساترًا، قاله ابن عباس.
الثالث: حجابًا من الناس، وهو محتمل، وفيه وجهان:
أحدهما: أنها اتخذت مكانًا تنفرد فيه للعبادة.
الثاني: أنها اتخذت مكانًا تعتزل فيه أيام حيضها.
{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} الآية: فيه قولان:
أحدهما: يعني الروح التي خلق منها المسيح حتى تمثل لها بشرًا سويًا.
الثاني: أنه جبريل، قاله الحسن وقتادة، والسدي، وابن جريج، وابن منبه.
وفي تسميته له روحًا وجهان:
أحدهما: لأنه روحاني لا يشوبه شيء غير الروح، وأضافه إليه بهذه الصفة تشريفًا له.
الثاني: لأنه تحيا به الأرواح.
واختلفوا في سبب حملها على قولين:
أحدهما: أن جبريل نفخ في جيب درعها وكُمِّهَا فَحَمَلَتْ، قاله ابن جريج، منه قول أميه بن أبي الصلت:
فأهوى لها بالنفخ في جيب درعها ** فألقت سويّ الخلق ليس بتوأم

الثاني: أنه ما كان إلا أن حملت فولدته، قاله ابن عباس.
واختلفوا في مدة حملها على أربعة أقاويل: أحدها: تسعة أشهر، قاله الكلبي. الثاني: تسعة أشهر. حكى لي ذلك أبو القاسم الصيمري.
الثالث: يومًا واحدًا.
الرابع: ثمانية أشهر، وكان هذا آية عيسى فإنه لم يعش مولودًا لثمانية أشهر سواه.
قوله تعالى: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} لأن مريم خافت جبريل على نفسها حين دنا فقالت {إِنِّي أَعُوذُ} أي أمتنع {بِالرَّحْمَنِ مِنكَ} فاستغاثت بالله في امتناعها منه.
فإن قيل: فلم قالت {إن كُنتَ تَقِيًّا} والتقي مأمون وإنما يستعاذ من غير التقي؟
ففيه وجهان: أحدهما: أن معنى كلامها إن كنت تقيًا لله فستمتنع من استعاذتي وتنزجر عني من خوفه، قاله أبو وائل.
الثاني: أنه كان اسمًا لرجل فاجر من بني إسرائيل مشهور بالعهر يُسَمَّى تقيًا فخافت أن يكون الذي جاءها هو ذلك الرجل المسمى تقيًا الذي لا يأتي إلا للفاحشة فقالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا، قاله بن عباس. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)}.
هذه ابتداء قصة ليست من الأولى، والخطاب لمحمد عليه السلام. و{الكتاب} القرآن، و{مريم} هي بنت عمران أم عيسى اخت أم يحيى واختلف الناس لم {انتبذت} والانتباذ التنحي. فقال السدي {انتبذت} لتطهر من حيض، وقال غيره لتعبد الله وهذا أحسن، وذلك أن مريم كانت وقفًا على سدانة المتعبد وخدمته والعبادة فيه فتنحت من الناس لذلك. وقوله: {شرقيًا} يريد في جهة الشرق من مساكن أهلها، وسبب كونه في الشرق أنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلق الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها، حكاه الطبري، وحكي عن ابن عباس أنه قال إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة؟ لقول الله عز وجل {إذا انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا} فاتخذوا ميلاد عيسى قبله، وقال بعض الناس (الحجاب) هي اتخذته لتستتر به عن الناس لعبادتها. فقال السدي كان من جدرات، وقيل من ثياب، وقال بعض المفسرين اتخذت المكان بشرقي المحراب، و(الروح) جبريل، وقيل عيسى، حكى الزجاج القولين. فمن قال إنه جبريل قدر الكلام فتمثل هو لها. ومن قال إنه عيسى قدر الكلام فتمثل الملك لها، قال النقاش ومن قرأ {روحنّا} مشددة النون جعله اسم ملك من الملائكة ولم أر هذه القراءة لغيره. واختلف الناس في نبوة مريم فقيل كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك، وقيل لم تكن نبية وإنما كملها مثال بشر ورؤيتها لملك، كما رئي جبريل في صفة دحية وفي سؤاله عن الإسلام والأول أظهر. وقوله تعالى: {أعوذ بالرحمن} الآية، المعنى قالت مريم للملك الذي تمثل لها بشرًا لما رأته قد خرق الحجاب الذي اتخذته، فأساءت به الظن {أعوذ بالرحمن منك إن كنت} ذا تقى، قال أبو وائل علمت أن (التقي) ذو نهية، وقال وهب بن منبه (تقي) رجل فاجر كان ذلك في الزمن في قومها فلما رأته متسورًا عليها ظنته إياه فاستعاذت بالرحمن منه، حكى هذا مكي وغيره، وهو ضعيف ذاهب مع التخرص فقال لها جبريل عليه السلام {إنما أنا رسول ربك لأهب لك}، جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وقرأ الجمهور: {لأهب} كما تقدم، وقرأ عمرو ونافع {ليهب} بالياء أي ليهب الله لك، واختلف عن نافع. وفي مصحف ابن مسعود {ليهب الله لك} فلما سمعت مريم ذلك واستشعرت ما طرأ عليها استفهمت عن طريقه وهي لم يمسها بشر بنكاح ولم تكن زانية. و(البغي) المجاهرة المنبهرة في الزنا فهي طالبة له بغوى على وزن فعول كبتول وقتول ولو كانت فعيلًا لقوي أن يلحقها هاء التأنيث فيقال بغية.
{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}.
المعنى قال لها الملك {كذلك} هو كما وصفت ولكن {قال ربك} ويحتمل أن يريد على هذه الحال {قال ربك} والمعنى متقارب والآية العبرة المعرضة للنظر، والضمير في قوله: {لنجعله} للغلام، {ورحمة منا} معناه طريق هدى لعالم كثير، فينالون الرحمة بذلك، ثم أعلمها بأن الأمر قد قضي وانتجز، و الأمر هنا واحد الأمور وليس بمصدر أمر يأمر. اهـ.